Sunday, February 7, 2016

رسالة ليست على ورق

إليكْ،

أكتبُ لك بدون أقلام أو أوراق، أكتبُ بكلتا يداي. وأكتب بدون إنحناءة في ظهري، ولكن باسترخاء تام على شاشة لا تعجّ بها أية حياة. أكتب دون ألم في يديّ من القلم ودون أي حبر يلطّخها. أكتب بكل ما في هذا الزمان من رفاهية، وليس في الكتابة من رفاهية، ولكنّني أكتب وأُطلق على نفسي كاتبة على هذه الشاشات الخالية من الحياة. والبعض ويصدّق. وليس في يدي قلمٌ يدمي ويقف على الورقة أو يُلقى عليها مُرهقًا من كثرة ما في جُعبتي من صمت مليء باللاأمل. ولكنني أكتب على أي حال.

أرسم صورة لك بقلمي الجديد بخطٍ واحد لا يتغيّر، بعد أن كنت أرسمك في كلّ مرة رسمة جديدة عمّا قبلها وقديمة عمّا بعدها. تتغيّر ألوانك في رسائلي الجديدة، فقد تصبح قرمزيًا وقد تصبح أرجوانيًا، وأحيانًا كثيرة تصبح أسودًا. بينما على أوراقي أنت دائمًا رماديّ اللون. وكأنك بين كل شيء في الحياة، أو في عالمي أنا بالتحديد. ورسائلي لك لا تحيد أبدًا لتهرب إلى هامش الورقة، لأنها ليست ورقة بالمعنى الذي عرفته من قبل، ولكنّها تظلّ حبيسة في أُطرٍ خانقة تكاد كلماتي تُقتل فيها، بل تكاد تُنتزع منّي إلى السطر الذي يليه، بدون أي رغبة مني ولا تخطيط. أكتب وأترك الكلمات تتأرجح بين السطر والآخر، لأنني أصبحتُ كالآلة، لا أحيد عن الطريق كما يحيد الإنسان.

في رسائلي إليك، لن تجد ما أمحوه ولا ما أشطُبه، وستراها تكاد تكون كاملة وتامة، وكأنها تزعم أنها إله. لن يوجد فيها أثر كلمة مسحتُها وتركَتْ بقايا من حرفها في الرسالة، ولن ترَ فيها أي شائبة. وكأنني لا أمسح ما أكتب ولا أتراجع عن مئات الكلمات وأنا أكتب لك هذه الرسائل. وكأن كلماتي امتلأت بالثقة العمياء، وأنا لا أتلقى منك من الرسائل رسالة واحدة فقط. وكأنّ الكلمات تخرج مني على ما هي عليه، بدون إضافة ولا نقصان. بل وكأنني شخصٌ كامل.

أرجوك ألّا تُصدّق هذا، أرجوك ألا تظنّ ولو للحظة أن فيّ من الثقة ما يبدو لك في رسائلي. فأنا مليئة بالتشككات وبالكلمات غير المنطوقة والحروف غير المكتملة التائهة. أنا كمن تراهم في مقهى في صباح باكر تشرب القهوة وحيدةً وتُفضّل أحيانًا ألا يكون بصحبتها أحد على الإطلاق. أرجو ألا تظنّ أنه ليس في قلمي ارتجافات وسكتات وترددات غير متناهية. أنا مليئة بها، بل إنني هيَ ذاتها. أنا مليئة بكل هذا. وأرجو أيضًا ألا تظنّ أن يدي لا تؤلمني من الكتابة، بل إن الألم يتضاعف لأنني أكتبُ بكلتا يداي ليصل إليك الحديث مليئًا بثقة واهية. ولكن لا تُصدّق كل هذا. بل لا تصدّقني حتى ترى ما بداخلي مما يخفى عليك في هذه الرسائل.

ولكنّي آمل ألا يكون لكلّ هذا أثر على ما أكتبه لك وعلى تلقّيك لرسائلي، لأن تعدد الوسائل واختلاف الرسائل لا يقلل من معنى كلماتي لك. فالكلمةُ منّي والصمت منك. وقد قبلتُ التعايش مع هذا كله لأجلك.

ولكَ كُلّ ما فيّ،
نون


No comments:

Post a Comment